المادة    
ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللهُ: [يُخْبِرُ سبحانَه أنَّه استخرج ذُرِّيَّةَ بني آدَمَ من أصلابهم شاهِدِينَ عَلَى أنفسهم أنَّ اللهَ رَبُّهُمْ ومليكُهم وأنَّه لا إله إلا هُوَ، وقَدْ وَرَدتْ أحادِيثُ في أخذِ الذُّرِّيَّةِ من صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتمييزهم إِلَى أصحابِ اليمين، وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهادُ عليهم بأن اللهَ ربُّهم] وهنا يبدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ يمهد للقول الذي اختاره، وهو أن الإشهاد لم يكن حقيقياً.
وهذا الكلام فيه إشعار وتمهيد لما يريدُ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أن يقوله، وذكر أشهر الأحاديث وأكثرها ذكراً واستشهاداً عَلَى موضوع الميثاق هو حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنَّ اللهَ أَخَذَ المِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِـنَعْمَانَ -يعني عَرَفَهَ} ونَعْمَانَ هو الوادي المعروف، وكما هو معروف في الكتب القديمة أنه بطن واد لهذيل، وهو أيضاً لهذيل إِلَى اليوم تسكنه هذه القبيلة المعروفة، ففي هذه الرواية ورد تعيين المكان أنه في نعمان أو أنه في عرفة وعَرَفَهَ ونَعْمَانَ ليس بينهما كبير مسافة ولعل نَعْمَانَ اسم عَرَفَهَ وغيرها فتكون عَرَفَهَ جزء منه، فالله أعلم أي ذلك وقع.
والمقصود أنه وقع في هذه الأرض بعد إنزال أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام، فأخرج من صلبه كل ذريته، وفي ذلك الوقت لم يكن الله قد خلقها وإنما كل ذرية كتب أنه سيخلقها {فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُم قُبُلاً -فليس في الأمر مجاز ولا احتمال للمجاز، بل أخرجهم من ظهره ونثرهم بين يديه وكلمهم وخاطبهم قبلاً أي: مقابلة- فقَالَ: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))[الأعراف:172]} رواه الإمام أَحْمَد والنَّسَائِيُّ والحاكم ورواه غيرهم كابن أبي حاتم.
  1. تعليل ابن كثير لحديث ابن عباس

    ولو رجعنا إِلَى تفسير ابن كثير فسنجد أنه أعله بأنه موقوف، وقد سبق أن أحلنا إِلَى سلسلة الأحاديث الصحيحة.
    وما كتبه الشيخ ناصر الدين هو الصواب، وهو الحق وهو الذي عليه كثير من السلف قديماً وحديثاً.
    وما ذهب إليه المُصنِّف وابن كثير وابن القيم قول مرجوح لا ينبغي أن يذهب إليه من قرأ تلك الروايات التي جمعها الشيخ ناصر.
  2. تصحيح الشيخ ناصر لحديث ابن عباس

    فهذا الحديث قد صح متصلاً مرفوعاً عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ورد عن عدة من الصحابة غير ابن عباس بآثار كثيرة عن أعلام المفسرين من الصحابة من التابعين كلُّها تؤيد وتشهد أنه أخذ واستخراج حقيقي وإشهاد حقيقي، فهذا الحديث علق عليه الشيخ ناصر وقَالَ: صحيح بطرقه وشواهده.
    أي: الحديث السابق المروي من طريق كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
    وهذا هو الذي رواه الإمام أَحْمَد والنَّسَائِيُّ والحاكم في المستدرك
    .
    وأما الحديث الثاني وهو: ما رواه الإمام أَحْمَد عن عُمَرَ بن الخطاب أنه سُئِلَ عَنْ هذه الآية ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ)) [الأعراف:172] فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سمعتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنَها، فقَالَ: {إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رجلٌ: يا رَسُولَ اللهِ فَفِيمَ العَمَلُ؟ قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجنَّةِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجََنَّةِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ للنَّارِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ} ورواه أبو داود والتِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ وابنُ أبي حاتِمِ وابنُ جرير وابنُ حِبَّان في صحيحه.
  3. تعقب على العلامة الألباني أثابه الله

    والشيخ ناصر الدين الألباني يعلق هنا ويقول: صحيح لغيره إلا مسح الظهر فلم أجد له شاهداً، والشيخ ناصر استدرك عَلَى ابن القيم وابن كثير وعلى المُصنِّف وعلى من تقدمهم من العلماء الذين مالوا إِلَى القول بأن الإشهاد غير حقيقي، وإنما هو الإقرار والاعتراف الفطري، وهو نفسه رَحِمَهُ اللَّهُ أخطأ عندما قَالَ: إن المسح الذي في حديث عُمَر لم يجد له شاهداً، ولو نظرنا إِلَى الحديث الآخر الذي رواه التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ورواه الحاكم وقَالَ: صحيح عَلَى شرط مسلم وقال الشيخ ناصر نفسه عن الحديث: (صحيح وجدت له أربع طرق بعضها عند ابن أبي عاصم في السنة بتحقيقي) لوجدناه شاهداً للفظة (ثُمَّ مسح عَلَى ظهره) فيكون الشيخ استدرك عَلَى من قبله ووقع هو في خطأ آخر.
    فالحقيقة أن حديث عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلجنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رجل: يا رَسُول الله فَفِيمَ العَمَلُ؟ قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلجنَّةِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجََنَّةِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجََنَّةِ، فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ للنَّارِ استَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ} ولا نجد عند التأمل ذكراً للميثاق والاستشهاد في هذا الحديث، إذاً المُصنِّف لما قال: (في بعضها الإشهاد عليهم) كَانَ كلامه علمياً وصحيحاً، وبعض الأحاديث ليس فيها: أن الله استشهدهم، إنما فيها: أنه استخرجهم، لكن هل هذا يعني أنه لا يصلح أن يكون دليلاً لمن يقول: إن الاستشهاد والإخراج حقيقي؟
    الجواب: بلى يصلح، وإن كَانَ ليس فيه ذكر، ذلك لأننا نضم الأحاديث بعضها إِلَى بعض ويكفينا من هذا الحديث أنه صرح أن الله مسح عَلَى ظهر آدم بيمينه واستخرج منه الذرية.
    إذاً: الاستخراج حقيقيٌ، ثُمَّ بعد أن استخرجهم، واختلفت الروايات في ذكر ما قال لهم.